شرح حديث
((يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبـِي عَلَى دِينك))
روايات الحديث:
* عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:
((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟
قَالَ: ((نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ))رواه الترمذي
* عن شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟
قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))
قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَكْثَرَ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟
قَالَ: ((يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ!))
فَتَلَا مُعَاذٌ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}رواه الترمذي
* عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ))
ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ))رواه مسلم
ما معنى قلب؟
والقلب في الأصل مصدر
وسمي به هذا العضو الذي هو أشرف الأعضاء؛ لسرعة الخواطر فيه، وترددها عليه
وأنشد بعضهم في هذا المعنى:
ما سُمّي القلـب إلا من تقلّبه ** فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويل
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا سُمِّيَ الْقَلْبُ مِنْ تَقَلُّبِهِ، إِنَّمَا مَثَلُ الْقَلْبِ كَمَثَلِ رِيشَةٍ مُعَلَّقَةٍ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ يُقَلِّبُهَا الرِّيحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ))
معنى ((مُقَلِّب الْقُلُوب)):
قال ابن حجر في الفتح: "مَعْنَاهُ تَقْلِيب قَلْب عَبْده عَنْ إِيثَار الْإِيمَان إِلَى إِيثَار الْكُفْر وَعَكْسه"
وقال: قَالَ الرَّاغِب: "تَقْلِيب الشَّيْء تَغْيِيره مِنْ حَال إِلَى حَال
وَالتَّقْلِيب التَّصَرُّف
وَتَقْلِيب اللَّه الْقُلُوب وَالْبَصَائِر صَرْفهَا مِنْ رَأْي إِلَى رَأْي".
قال صاحب تحفة الأحوذي: "((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ)) أَيْ مُصَرِّفَهَا تَارَةً إِلَى الطَّاعَةِ وَتَارَةً إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَارَةً إِلَى الْحَضْرَةِ وَتَارَةً إِلَى الْغَفْلَةِ".
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: "فِي نِسْبَة تَقَلُّب الْقُلُوب إِلَى اللَّه إِشْعَار بِأَنَّهُ يَتَوَلَّى قُلُوب عِبَاده وَلَا يَكِلهَا إِلَى أَحَد مِنْ خَلْقه،
وَفِي دُعَائِهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((يَا مُقَلِّب الْقُلُوب ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينك)) إِشَارَة إِلَى شُمُول ذَلِكَ لِلْعِبَادِ حَتَّى الْأَنْبِيَاء، وَرَفْع تَوَهُّم مَنْ يَتَوَهَّم أَنَّهُمْ يُسْتَثْنَوْنَ مِنْ ذَلِكَ.
قال ابن بطال: "تقليبه لقلوب عباده صرفه لها من إيمان إلى كفر، ومن كفر إلى إيمان، وذلك كله مقدور لله تعالى وفعل له".
لماذا خصّ نفسه بالذكر؟
وَخَصَّ نَفْسه بِالذِّكْرِ؛ إِعْلَامًا بِأَنَّ نَفْسه الزَّكِيَّة إِذَا كَانَتْ مُفْتَقِرَة إِلَى أَنْ تَلْجَأ إِلَى اللَّه سُبْحَانه فَافْتِقَار غَيْرهَا مِمَّنْ هُوَ دُونه أَحَقّ بِذَلِكَ".
التقليب بين عدل الله وفضله
الله تعالى يقلب قلوب أعدائه بعدل، والعدل صفة له، فهو يقلب قلوبهم من حال إلى حال...
قال الله عز وجل {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا}، وقال جل جلاله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} ...
فهو عزّ وجلّ يفعل ذلك بالمنافقين والكافرين دون المؤمنين المخلصين، وله أن يفعل ما يشاء إذ هو المالك لهم، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، فعلى هذا يقلب قلوب أعدائه...
ويقلب قلوب أوليائه بفضله من حال إلى حال إرادة الخير لهم؛
ليهتدوا ويوفقوا ويزيدهم إيمانًا، قال الله تعالى {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِم}، وتثبيتا لهم، كما قال الله عز وجل {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَة}
فقلوب أوليائه المؤمنين المخلصين الذين سبقت لهم منه الحسنى تتقلب بين الخوف والرجاء، واللين والشدة، والوجل والطمأنينة، والقبض البسط، والشوق والمحبة، والأنس والهيبة، والله تعالى يقلبها بفضله
((ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك))
قال في تحفة الأحوذي: "أَيْ اِجْعَلْهُ ثَابِتًا عَلَى دِينِك، غَيْرَ مَائِلٍ عَنْ الدِّينِ الْقَوِيمِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ"
من أسباب ثبات عقيدة السلف وسلامتها من التغيّرات:
هناك أسباب كثيرة بعد توفيق الرب جل وعلا وحفظه سبحانه كانت وراء ثبات عقيدة السلف وبقائها واستقرارها في نفوس أهلها وسبب لسلامة أهلها من التغير والتلون والانحراف.
ولا شك أن من النافع للمسلم والمفيد له في حياته أن يقف على الأسباب التي بها ثبات العقيدة وسلامتها؛ليتعاهدها في نفسه وليرعاها أحسن الرعاية مستعينًا على ذلك كله بالله تبارك وتعالى:
أولًا: اعتصام أهلها بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإيمانهم بجميع ما جاء فيهما، واعتقادهم الكامل بأن ما فيهما لا يجوز ترك شيء منه.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}
ثانيًا: اعتقادهم أن الكتاب والسنة مشتملان على المعتقَد الحق، لا نقص فيهما بأي وجه من الوجوه، فإن المعتقد الحق بيِّن تمام البيان وواضح كامل الوضوح في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أي عقيدة وعبادة وسلوكًا،
{وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}
ثالثًا: استقر في نفوسهم أنهم في حال وقوع أي نزاع أو خلاف أو نحو ذلك لا يعولون على شيء ولا يرجعون إلى شيء إلا إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
رابعًا: سلامة فطرتهم ...والفطرة نعمة من الله عز وجل ومنة منه تبارك وتعالى على عباده.
قال صلى الله عليه وسلم: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ))
خامسًا: صحة عقولهم، فأهل السنة والجماعة أحسن الناس عقولاً، وأسلمهم رأيًا وفكرًا ومنهجًا، لهم عقول راجحة ليس فيها غلو أو جفاء كما هو الشأن في غيرهم من أهل الأهواء والبدع...
صحّت عقولهم وسلمت من الانحراف لأنهم أعملوها في حدودها المعينة ولم يهملوها{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}
سادسًا: أن في نفوس أهل السنة والجماعة اطمأنّت بهذه العقيدة غاية الطمأنينة، يشعر كل واحد منهم براحة في قلبه، وطمأنينة في نفسه، وأُنْسٍ وسعادةٍ، بل وفرح ولذّة بهذا المعتقد الحقّ الذي أنعم الله تبارك وتعالى عليه به.
سابعًا: ارتباطهم بفهم السلف الصالح -الصحابة ومن اتبعهم بإحسان-، فهُم مع الأمور المتقدّمة يعولون في فهم النصوص ومعرفة دلالتها على ما جاء عن الصحابة ومن اتبعهم بإحسان.
ثامنًا: توسّطهم -رحمهم الله- واعتدالهم، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي شهودًا عدولاً.
وتوسّطهم هو لزومهم للحقّ واستقامتهم وثباتهم عليه، ومجانبتهم للطرق المنحرفة.
تاسعًا: عدم تقديمهم لعقولهم وأذواقهم على ما جاء في الكتاب والسنة.
عاشرًا: حُسْن صلتهم بالله وشدّة ارتباطهم به واعتمادهم عليه؛ لأن التوفيق بيده سبحانه وتعالى.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى))
الحادي عشر: يقينهم التامّ بهذا المعتقد الذي استقاموا عليه، وبعدهم عن تعريضه للخصومة والجدل، وهذا جانب غاية في الأهمية للثبات على المعتقد الحقّ.
قال حذيفة لأبي مسعود: "إن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلوّن في دين الله، فإن دين الله واحد".
الثاني عشر: اعتقادهم أن مسائل الاعتقاد من الإيمان بالله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر، ونحو ذلك من الأمور التي جاءت بها الرسل، واتّفقت كلمتهم عليها جميعها أمور ثوابت لا يدخلها نسخ أو تبديل أو نحو ذلك؛ لأن العقيدة ليست مما يدخلها النسخ.
الثالث عشر: وضوح عقيدتهم، ويُسرها، وبُعْدها عن الغموض، بينما العقائد الأخرى يكتنفها أنواع من الغموض، وعدم الوضوح، وكثير من الشبهات.
الرابع عشر: اعتبارهم واتّعاظهم بحال أهل الأهواء، وقديمًا قيل: "السعيد من اتّعظ بغيره"
الخامس عشر: اتفاق كلمتهم وعدم تفرقهم، أما أهل الأهواء فقد فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، كل حزب بما لديهم فرحون.
قال قتادة: "لو كان أمر الخوارج هدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالاً فتفرّق".
عصمة النبي صلى الله عليه وسلم
قال في تحفة الأحوذي: "فَقُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ آمَنَّا بِك" أَيْ بِنُبُوَّتِك وَرِسَالَتِك
"وَبِمَا جِئْت بِهِ" مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
"فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟" يَعْنِي أَنَّ قَوْلَك هَذَا لَيْسَ لِنَفْسِك؛ لِأَنَّك فِي عِصْمَةٍ مِنْ الْخَطَأِ وَالزِّلَّةِ، خُصُوصًا مِنْ تَقَلُّبِ الْقَلْبِ عَنْ الدِّينِ وَالْمِلَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا مِنْ زَوَالِ نِعْمَةِ الْإِيمَانِ أَوْ الِانْتِقَالِ مِنْ الْكَمَالِ إِلَى النُّقْصَانِ؟
خوف النبي صلى الله عليه وسلم علينا
قَالَ: ((نَعَمْ)) يَعْنِي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
((يُقَلِّبُهَا)) أَيْ الْقُلُوبَ
((كَيْفَ يَشَاءُ)) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَيْ تَقْلِيبًا يُرِيدُهُ
أَوْ حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ أَيْ يُقَلِّبُهَا عَلَى أَيِّ صِفَةٍ شَاءَهَا.
مَا لِأَكْثَرِ دُعَائِك" أَيْ مَا السَّبَبُ فِي إِكْثَارِك هَذَا الدُّعَاءِ...
((فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ)) أَيْ فَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَقَامَ قَلْبَهُ وَثَبَّتَهُ عَلَى دِينِهِ وَطَاعَتِهِ
((وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ)) أَيْ وَمَنْ شَاءَ اللَّهُ أَمَالَ قَلْبَهُ وَصَرَفَهُ عَنْ دِينِهِ وَطَاعَتِهِ.
الحذر من الأمن
قال ابن حجر في فتح الباري في شرحه لحديث ((لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلَّا أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لَا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ)):
"وَهُوَ سُبْحَانه مُقَلِّب الْقُلُوب فَلَا يَأْمَن الْمُؤْمِن أَنْ تَكُون عَاقِبَته إِلَى مِثْل ذَلِكَ".
أصل الثبات
قال السعدي في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}: "وأصل الثبات: ثبات القلب وصبره، ويقينه عند ورود كل فتنة،
فقال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} فأهل الإيمان أهدى الناس قلوبًا، وأثبتهم عند المزعجات والمقلقات؛ وذلك لما معهم من الإيمان.
يقول الشيخ السعدي في تفسير قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}
من أسباب الثبات:
• الشعور بالفقر إلى تثبيت الله تعالى،
وذلك أنه ليس بنا غنى عن تثبيته طرفة عين، فإن لم يثبتنا الله وإلا زالت سماء إيماننا وأرضُه عن مكانها
وقد قال مخاطباً خير خلقه وأكرمهم عليه: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}، وقال تعالى: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يكثر من قوله: ((لا ومصرف القلوب)) كما روى ابن ماجه بسند جيد مما يؤكد أهمية استشعار هذا الأمر واستحضاره.
قال عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة}، والإيمان الذي وعد أهله وأصحابه بالتثبيت هو الذي يرسخ في القلب وينطق به اللسان وتصدقه الجوارح والأركان، فليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل
فالالتزام الصادق في الظاهر والباطن والمنشط والمكره هو أعظم أسباب التثبيت على الصالحات قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً}.
فالمثابرة على الطاعة المداوم عليها المبتغى وجه الله بها موعود عليها بالخير والتثبيت من الله مقلب القلوب ومصرفها.
• ترك المعاصي والذنوب صغيرها وكبيرها ظاهرها وباطنها
فإن الذنوب من أسباب زيغ القلوب، فقد قال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )).
وأما الصغائر فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه))
• الإقبال على كتاب الله تلاوة وتعلماً وعملاً وتدبرًا،
فإن الله سبحانه وتعالى أخبر بأنه أنزل هذا الكتاب المجيد تثبيتًا للمؤمنين وهداية لهم وبشرى، قال الله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
• عدم الأمن من مكر الله
فإن الله سبحانه وتعالى قد حذر عباده مكره فقال عز وجل: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}
وقد قطع خوف مكر الله تعالى ظهور المتقين المحسنين وغفل عنه الظالمون المسيئون كأنهم أخذوا من الله الجليل توقيعاً بالأمان وقال الله تعالى: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ}.
قال ابن القيم رحمه الله: "إن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى مقلب القلوب، وأنه يحول بين المرء وقلبه، وأنه تعالى كل يوم هو في شأن، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأنه يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، ويرفع من يشاء، ويخفض من يشاء،
فما يؤمّنه أن يقلّب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم".
• سؤال الله التثبيت
فإن الله هو الذي يثبتك ويهديك، قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.
• نصر دين الله الواحد الديان ونصر أوليائه المتقين وحزبه المفلحين
قال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.
• الرجوعُ إلى أهل الحق والتقى من العلماء والدعاة
الذين هم أوتاد الأرض ومفاتيح الخير ومغاليق الشر.
قال ابن القيم رحمه الله حاكياً عن نفسه وأصحابه: "وكنا إذا اشتدّ بنا الخوف، وساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه -أي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله عنا، وينقلب انشراحاً وقوة ويقيناً وطمأنينة!".
• الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي
فإنه لن يحصل العبد الخيرات إلا بهذا، وقد أمر الله تعالى نبيه بالصبر فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِوَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ)).
• كثرة ذكر الله تعالى
كيف لا وقد قال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت))
• ترك الظلم
فالظلم عاقبته وخيمة، وقد جعل الله التثبيت نصيب المؤمنين، والإضلال حظّ الظالمين، فقال جل ذكره: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ}.